الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
فإن قيل: ما الحكمة في قوله تعالى هنا {وهو العليم القدير} وقوله تعالى من قبل {وهو العزيز الحكيم} والعزة إشارة إلى كمال القدرة والحكمة إشارة إلى كمال العلم فقدم القدرة هناك على العلم؟أجيب: بأنّ المذكور هناك الإعادة بقوله تعالى: {وهو أهون عليه وله المثل الأعلى في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم}.لأنّ الإعادة بقوله تعالى: كن فيكون، فالقدرة هناك أظهر وههنا المذكور الإبداء وهو أطوار وأحوال والعلم بكل حال حاصل فالعلم هاهنا أظهر. ثم إنّ قوله تعالى: {وهو العليم القدير} فيه تبشير وإنذار؛ لأنه إذا كان عالمًا بأحوال الخلق يكون عالمًا بأحوال المخلوق فإن عملوا خيرًا علمه، وإن عملوا شرًّا علمه، ثم إذا كان قادرًا وعلم الخير أثاب وإذا علم الشرّ عاقب، ولما كان العلم بالأحوال قبل الإثابة والعقاب اللذين هما بالقدرة والعلم قدم العلم، وأمّا الآية الأخرى فالعلم بتلك الأحوال قبل العقاب فقال: {وهو العزيز الحكيم} ولما ثبتت قدرته تعالى على البعث وغيره عطف على قوله أول السورة {ويوم تقوم الساعة يبلس المجرمون}.{ويوم تقوم الساعة} أي: القيامة سميت بذلك لأنها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنها تقع بغتة، أو إعلامًا بتيسيرها على الله تعالى، وصارت علمًا عليها بالغلبة كالكوكب للزهرة {يقسم} أي: يحلف {المجرمون} أي: الكافرون.وقوله تعالى: {ما لبثوا} جواب قوله تعالى يقسم وهو على المعنى إذ لو حكي قولهم بعينه لقيل ما لبثنا أي: في الدنيا {غير ساعة} استقلوا أجل الدنيا لما عاينوا في الآخرة، وقال مقاتل والكلبي: ما لبثوا في قبورهم غير ساعة كما قال تعالى: {كأنهم يوم يرونها لم يلبثوا إلا عشية أو ضحاها}.وكما قال تعالى: {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار}.وقيل: فيما بين فناء الدنيا والبعث. وفي حديث رواه الشيخان: «ما بين النفختين أربعون» وهو محتمل للساعات والأيام والأعوام {كذلك} أي: مثل ذلك الصرف عن حقائق الأمور إلى شكوكها {كانوا} في الدنيا كونًا هو كالجبلة لهم {يؤفكون} أي: يصرفون عن الحق في الدنيا، وقال مقاتل والكلبي: كذبوا في قولهم غير ساعة كما كذبوا في الدنيا أن لا بعث، والمعنى: أنّ الله تعالى أراد أن يفضحهم فحلفوا على شيء تبين لأهل الجمع أنهم كاذبون فيه، ثم ذكر إنكار المؤمنين عليهم بقوله تعالى: {وقال الذين أوّتوا العلم والإيمان} وهم الملائكة والأنبياء والمؤمنين {لقد لبثتم في كتاب الله} أي: فيما كتب الله لكم في سابق علمه وقضائه، أو في اللوح المحفوظ، أو فيما وعد به في كتابه من الحشر والبعث فيكون في كتاب الله متعلق بلبثتم، وقال مقاتل وقتادة: فيه تقديم وتأخيره معناه: وقال الذين أوتوا العلم بكتاب الله والإيمان لقد لبثتم {إلى يوم البعث} وفي ترد بمعنى الباء فردّوا ما قال هؤلاء الكفار وحلفوا عليه وأطلعوهم على الحقيقة، ثم وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم {فهذا يوم البعث} الذي أنكرتموه، وقراء نافع وابن كثير وعاصم بإظهار الثاء المثلثة عند التاء المثناة، والباقون بالإدغام.تنبيه:سبب اختلاف الفريقين أنّ الموعود بوعد إذا ضرب له أجل إن علم أنّ مصيره إلى النار وهو الكافر يستقل مدّة اللبث ويختار تأخير الحشر والإبقاء في القبر، وإن علم أنّ مصيره إلى الجنة وهو المؤمن فيستكثر المدة ولا يريد تأخيرها فيختلف الفريقان، وفي هذه الفاء قولان: أظهرهما: أنها عاطفة هذه الجملة على لبثتم، وقال الزمخشريّ: هي جواب شرط مقدّر أي: إن كنتم منكرين البعث فهذا يوم البعث أي: فقد تبين بطلان ما قلتم، ولما كان التقدير قد أتى فقد تبين أنه كما كنا به عالمين فلو كان لكم نوع من العلم لصدقتمونا في إخبارنا به فنفعكم ذلك الآن، عطف عليه قوله تعالى: {ولكنكم كنتم} أي: كونًا هو كالجبلة لكم في إنكاركم له {لا تعلمون} أي: ليس لكم علم أصلًا لتفريطكم في طلب العلم من أبوابه والتوصل إليه بأسبابه فلذلك كذبتم به فاستوجبتم جزاء ذلك التكذيب اليوم، ولما كانت الآيات دالة على أنّ هذه الدار دار عمل وأنّ الآخرة دار جزاء وأنّ البرزخ حائل بينهما فلا يكون في واحدة منهما ما للأخرى، تسبب عن ذلك قوله تعالى: {فيومئذ} أي: إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة {لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم} في إنكارهم له {ولا هم يستعتبون} أي: لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا، من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته أي: استرضاني فأرضيته، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما، والباقون بالتاء الفوقية، ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول صلى الله عليه وسلم تقصير بقوله تعالى: {ولقد ضربنا} أي: جعلنا {للناس في هذا القرآن} أي: في هذه السورة وغيرها {من كل مثل} أي: معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال، فإن طلبوا شيئًا آخر غير ذلك فهو عناد محض؛ لأنّ من كذب دليلًا حقًا لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلًا جيدًا مستقيمًا ظاهرًا لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم.فإن قيل: الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعًا من الدلائل؟أجيب: بأنهم سردوها سردًا ثم قرروا فردًا فردًا كمن يقول: الدليل عليه من وجوه الأوّل: كذا، والثاني: كذا، والثالث: كذا، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {ولئن} اللام لام قسم {جئتهم} يا أفضل الخلق {بآية} مثل العصا واليد لموسى عليه السلام {ليقولنّ الذين كفروا} منهم {إن} أي: ما {أنتم إلا مبطلون} أي: أصحاب أباطيل، فإن قيل: لم وحد في قوله تعالى: {جئتهم} وجمع في قوله تعالى: {إن أنتم}؟أجيب: بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال: {ولئن جئتهم بكل آية} أي: جاءت بها الرسل فقال الكفار: ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي: إن أنتم أي: محمد وأصحابه، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون.{كذلك} أي: مثل هذا الطبع العظيم {يطبع الله} أي: الذي له العظمة والكمال {على قلوب الذين لا يعلمون} توحيد الله، فإن قيل: من لا يعلم شيئًا أي: فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه؟أجيب: بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل. ثم إنه تعالى سلّى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: {فاصبر} أي: على إنذارهم مع هذا الجفاء والردّ بالباطل والأذى فإنّ الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا {إنّ وعد الله} أي: الذي له الكمال كله بنصرك وإظهار دينك على الدين كله وفي كل ما وعد به {حق} أي: ثابت جدًّا يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان وتأتي به مطايا الحدثان. ولما كان التقدير فلا تعجل عطف عليه قوله تعالى: {ولا يستخفنك} أي: يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفًا من عواقب تأخيره وتنفيرك عن التبليغ {الذين لا يوقنون} أي: أذى الذين لا يصدقون بوعدنا من البعث والحشر وغير ذلك تصديقًا ثابتًا في القلب بل هم إما شاكون وأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون فهم بالغون في العداوة والتكذيب حتى إنهم لا يصدّقون في وعد الله بنصر الروم على فارس كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أنّ ذلك لا يكون. فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهاره عن قرب علموا كذبهم عيانًا، وعلموا إن كان لهم علم أنّ الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون ويحشرون وهم داخرون.{وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون} فقد انعطف آخر السورة على أوّلها واتصل به اتصال القريب بالقريب. وها أنا أسأل الله تعالى القريب المجيب أن يغفر ذنوب من كتب هذا وهو محمد الشربيني الخطيب ويفعل ذلك بوالديه وأولاده ومشايخه وكل محب له وحبيب، وقول البيضاوي تبعًا للزمخشريّ عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع في يومه وليلته» حديث موضوع رواه الثعلبيّ في تفسيره والله تعالى أعلم بالصواب. اهـ.
|